في سوريا الجديدة، كما في سوريا القديمة، يبدو أن من يرتكب العنف يمكنه الاعتماد على “التأهيل”، طالما أنه يصوّر البديل على أنه الفوضى.
في السادس من مارس/ آذار الماضي، نفّذت وحدة من الأمن العامّ السوري “عمليّة تمشيط” في قرية قريبة من مدينة جبلة الساحلية. كانوا يبحثون عن قادة محلّيين موالين للنظام السابق بقيادة بشّار الأسد، يشتبه في أنهم يختبئون في التلال. وعندما عادوا إلى جبلة، تعرّض الأمن العام لكمين قُتل فيه ما لا يقلّ عن ستّة عشر عنصراً.
ردّاً على ذلك، أدخلت “هيئة تحرير الشام”؛ الحركة الإسلامية التي أطاحت بالأسد في كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، مركبات مدرّعة ومروحيات، ونفّذت ضربات صاروخية على القرى المحيطة بجبلة. خرج مئات الرجال العلويين إلى الشوارع حاملين ما تمكنوا من إيجاده من أسلحة: بنادق صيد، وأنابيب معدنية، وعصي، ومسدّسات صدئة. هاجموا الجنود والسيارات الدورية، واستولوا على مواقع استراتيجية على طول الساحل، كانت هذه أوّل مرّة منذ الإطاحة بالأسد، يفقد فيها النظام الجديد السيطرة على جزء من البلاد.
عليّ الذي كان يعيش مع والده في شقّة صغيرة في جبلة، حصل على سلاح تحسّباً لاقتراب القتال. كابن وحيد، تمّ إعفاؤه من الخدمة العسكرية، قال لي: “لم أحمل بندقية من قبل قط، لكنّنا كنّا سنموت على أي حال”.
رأى مراقبون أجانب ومحلّلون سياسيون أن الهجمات على الشرطة وقوّات الأمن كانت جزءاً من حملة منسّقة من قِبل “فلول النظام”، تتمتّع “بمستوى عالٍ من التخطيط والتنظيم”، وربما بدعم من إيران. لكنّ عليّ، الذي يعيش الآن مختبئاً في لبنان، يعتقد أن هذا التفسير خاطئ: “الذين يقولون إننا كنّا جميعاً موالين للأسد وجنوداً سابقين، ينسون أن العلويين ألقوا أسلحتهم ولم يقاتلوا من أجل الأسد في ساعاته الأخيرة. من الأسهل القفز إلى قصّتهم الجاهزة عنّا، وافتراض أننا تمرّدنا ضدّ الحكومة الجديدة بدافع الحنين أو الولاء للأسد، من الاعتراف بأن ما جاء بعد سقوط الأسد هو ما جعلنا نختار القتال”.
علوي رئيس لسوريا!
بالنسبة إلى كثير من العلويين، كان حافظ الأسد، والد بشّار، رمزاً لبقائهم. كان واحداً منهم، وُلد في عام 1930 في القرداحة، وهي قرية علوية فقيرة في التلال، تبعد عشرة أميال عن الساحل. وعلى الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية كانت قد سقطت قبل عقد من ولادته، فقد نشأ حافظ في وقت كانت فيه إساءة المعاملة وندوب قرون من الإذلال تحت الإمبراطورية لا تزال حاضرة. عندما كانت سوريا تحت الحكم الاستعماري الفرنسي بين العامين 1920 و1946، تمّ تجنيد العلويين – إلى جانب أقلّيات أخرى – في الجيش كجزء من استراتيجية تهدف إلى تقويض الأغلبية السنّية.
بعد أربع سنوات من استقلال سوريا، انضمّ حافظ إلى سلاح الجوّ وترقّى بسرعة في الرتب. بعد انقلاب البعثيين العسكري في عام 1963، أصبح أكثر نفوذاً، رئيساً لسلاح الجوّ ثم وزيراً للدفاع. وفي عام 1970، نفّذ انقلاباً أبيض من داخل اللجنة العسكرية الحاكمة، أُطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية”، وبعد أن رسّخ سلطته، نفى أو سجن العديد ممن ساعدوه في الوصول إلى القمّة.
بالنسبة إلى العلويين، لم تكن طريقة استيلاء حافظ على السلطة مهمّة. ما كان يهمّ هو أن واحداً منهم أصبح رئيساً. في السنوات الأولى من حكمه، تحوّلت القرى العلوية: استُبدلت مصابيح الكيروسين بالكهرباء؛ وأصبحت الطرق الترابية طرقاً معبّدة. بدأت الحافلات تصل إلى القرى الجبلية النائية – حافلات كانت قريباً تحمل الأبناء إلى الجيش وأجهزة الاستخبارات والبيروقراطية الحكومية.
تغيّرت جغرافيا سوريا، أصبحت المدن الساحلية مثل جبلة – التي كانت في السابق تحت سيطرة تجّار سُنّة مع وجود مسيحي صغير، مناطق جذب للعائلات العلوية من التلال المحيطة. كانت عائلة عليّ من بينهم. افتتح والده محلّاً لبيع التبغ في حيّ شعبي، والتحق عليّ بواحدة من المدارس التي شُيّدت حديثاً. كانت هذه المدارس كأنها أضرحة لحافظ: كانت هناك ملصقات للرئيس على الجدران، وكان التلاميذ يحفظون خطاباته. “قائدنا إلى الأبد: حافظ الأسد”، كان عليّ وزملاؤه يردّدون كلّ صباح، وكان يُروى للتلاميذ قصص عن طفولة حافظ القاسية لتأكيد مدى حظّ جيلهم.
رئيس بالوراثة!
عندما توفّي حافظ في عام 2000، تحوّل الحزن في الأحياء العلوية بسرعة إلى ذعر. هربت العائلات عائدة إلى الجبال: فبعد أن مات الرجل الذي ضمن لهم مكانهم في المدينة، لم يعودوا يشعرون بالأمان. ولكن، في محاولة للحفاظ على هيكل السلطة القائم، عدّل البرلمان السوري الدستور، وخفّض الحدّ الأدنى لعمر الرئيس من 40 إلى 34 عاماً، حتى يتمكّن بشّار، ابن حافظ، من خلافته. كان بشّار مختلفاً: هادئ الصوت، متعلّماً في لندن، ومتزوجاً من سُنّية – لم يكن انتماؤه العلوي محور صورته، ومع ذلك، ظلّ الانضمام إلى الجيش أو الحصول على وظيفة حكومية هو طموح معظم الرجال العلويين.
في مراهقته، كان عليّ يقضي الأمسيات مع أصدقائه على الكورنيش في جبلة، على بُعد مسافة قصيرة سيراً من منزله، كان الهواء مشبعاً برائحة المكسّرات المحمّصة. تتنزّه العائلات على الواجهة البحرية، الناس يجلسون في المقاهي، النساء يتأنّقن، وشعورهن مثبتة برذاذ الشعر لمواجهة الرطوبة الثقيلة، كانت السيّارات التي لا تحمل لوحات وتتميّز بزجاج مظلّل تجوب الشوارع ببطء: ضبّاط عادوا من دمشق لقضاء الصيف، كانت الفتيات يُشجَّعن على الزواج من رجال مثلهم، هذه السيّارات كانت تعني النفوذ، والمال، والحماية.
كان الشبّان مثل عليّ وأصدقائه يعلمون أنهم لا يملكون فرصة مع هؤلاء الفتيات – على الأقلّ ليس بعد – لكنّ رؤية تلك السيّارات، ومعرفتهم أن كثيرين من طائفتهم يشغلون مناصب عليا، ذكّرهم بأن تلك القوّة في متناول أيديهم، ولكن فقط لأن واحداً من طائفتهم وصل إلى القمة. ونتيجة لذلك، عندما انتشرت المعارضة ضدّ الأسد مع انطلاق الربيع العربي أوائل العام 2011، رأى كثير من العلويين – من الأغنياء والفقراء – ذلك فقط كتهديد لوصولهم الذي نالوه بشقّ الأنفس إلى دوائر السلطة.
بين الثورة و”المؤامرة الخارجية”
في آذار/ مارس من ذلك العام، بعد اندلاع الاحتجاجات في المناطق السنّية من جبلة، بدأت الدعوات إلى مقاطعة المتاجر المملوكة للسنّة تنتشر. ظهرت الحواجز فجأة بين عشيّة وضحاها، أغلق أصحاب المتاجر محالّهم عند غروب الشمس بدلاً من منتصف الليل. وعلى التلفزيون الحكومي، أصرّ المحلّلون على أن الاضطرابات كانت “مؤامرة خارجية”، ومن منطلق “حبّ الوطن”، طُلب من الناس مقاطعة جميع القنوات باستثناء القناة الرسمية. في جبلة، ظهر شعار الجزيرة الأصفر على حاويات القمامة، وانتشرت شائعات بأن قطر وإسرائيل كانتا ترسلان حبوبا تُضاف إلى السندويشات، تُسبّب الهلوسة وتُثير الكراهية تجاه الرئيس.
وبينما كان المتظاهرون في أنحاء سوريا يُطلق عليهم الرصاص، ويُعتقلون، ويُعذّبون – وكانت العديد من الجثث تُرمى لاحقاً في مقابر جماعية – ظلّ علويو جبلة غير متأثرين. في الأشهر الأولى، كانت هناك “مسيرات حبّ” يومياً. على الكورنيش، كانت دوائر من الراقصين تحتفل بما اعتقدوا أنه نصر. يبدو أن هناك قناعة حقيقية بأن الاضطرابات كانت مؤامرة أجنبية، قاوموها ببسالة، بعدم تصديق “قنوات العدو”، لكن سرعان ما رفع معارضو الأسد السلاح، كثير من الجنود الذين قُتلوا في القتال اللاحق جاءوا من جبلة والقرى المحيطة بها. مرّت مواكب الجنازات عبر المدينة – صفّارات الإنذار تعوي، والنساء يرمين الأرز من الشرفات، والمؤذّنون ينادون من المآذن. التقط التلفزيون الرسمي كلّ هذا: أمّهات يبكين، وآباء ينهارون فوق نعوش مغطاة بالأعلام، وكانت هذه اللقطات تُعرض مراراً وتكراراً.
كانت الجنازات تذكيراً بأنه عندما تكون البلاد تحت الهجوم، فإن الجنود العلويين هم غالباً من يموتون دفاعاً عنها. كانوا، كما يقول الناس كثيراً “يردّون الجميل” للنظام الذي أخرجهم من الفقر والعزلة. الخدمة كانت شرفاً، قال عليّ: “كلما مرّت سيّارة إسعاف في جبلة، يتبعها الرصاص، سواء كان في الحداد أو لتفريغ الطريق، كانت أمّي ترفع يديها إلى السماء وتهمس: الحمد لله عندي ولد واحد فقط، لن أضطرّ للبكاء عليه”.
كانت الخدمة العسكرية إلزامية لمعظم الرجال السوريين، وكان يمكن تأجيلها فقط للذين التحقوا بالجامعة أو دفعوا مبلغ 3000 دولار، في حين أن متوسّط الراتب الشهري كان يبلغ 60 دولاراً فقط. معظم الأولاد الذين اعتادوا التسكّع على الكورنيش تمّ تجنيدهم. سُليمان، الذي نشأ في الحيّ نفسه الذي يعيش فيه عليّ، كان واحداً منهم، كان الطفل الأوسط في عائلة كبيرة تضمّ ثماني أخوات وأخاً واحداً، وقد ترك المدرسة في سنّ الثالثة عشرة ليساعد في إعالة والديه، فعمل في مطعم محلّي. في عام 2013، عندما بلغ الثامنة عشرة، تمّ تجنيده في الجيش وأُرسل إلى وحدة في دمشق، هناك، كُلّف بحراسة ساحة خضراء يقطنها مسؤولون كبار خلف جدران وردية، كان يُنظر إلى هذا التعيين على أنه جيّد، بعيد عن ساحات القتال.
مع استمرار النزاع، قُتل العديد من أصدقاء سُليمان وعليّ. كانت وجوه القتلى تُعلّق على الجدران، وأعمدة الإنارة، وبوابات المدارس؛ حتى أصبحت جبلة تُعرف باسم “عاصمة الشهداء”. أما من عادوا أحياء فغالباً ما كانوا مبتوري الأطراف أو مُهمَلين من الدولة. أحياناً، كان الأسد وزوجته يظهران لفترة وجيزة، في زيارة مُعدّة مسبقاً للجرحى، يبتسمان للكاميرات ثم يغادران. كثير من الجنود، وقد أصابهم الإحباط، قرّروا أخذ ما يستطيعون، على الحواجز، ازدهر الفساد: تُوقف السيارات وتُطلب الأموال، وتُنهب البيوت. قال لي شقيق سُليمان، الذي أنهى خدمته العسكرية قبل اندلاع الحرب: “توسّلت إليه أن يفعل مثل الآخرين، بعض أصدقائه كانوا يجنون مئة دولار في اليوم من الرشى، لكنّه رفض”.
بقي في موقعه، وغالباً ما كان راتبه لا يكفي لأكثر من أسبوع واحد في الشهر، وعندما لم تستطع عائلته في جبلة إرسال المال إليه، بدأ بالاستدانة حتى تراكمت الديون. كان يحلم بأن يتمّ تسريحه من الخدمة كي يتمكّن من الحصول على وظيفة، وسداد ديونه، ودعم والديه، لكن حتى عندما خفّت حدّة القتال واستعادت قوّات الأسد بعض المناطق، لم يُسمح لسُليمان بمغادرة الجيش، وعندما زار جبلة، رأى طوابير الخبز الطويلة. الأمّهات حُرمن حتى من “مخصّصات الشهداء” الشهرية التي تبلغ أربعين دولاراً، وكانت الكهرباء لا تأتي إلا لساعتين في اليوم، إن وُجدت، وأصرّت الحكومة على أن كلّ هذا بسبب العقوبات الغربية، لكنّ سليمان كان قد رأى الأحياء في دمشق التي يعيش فيها أعضاء النخبة بترف، قال لإخوته: “لقد خُدعنا”.
مع تدهور الوضع الاقتصادي، بدأ الذين لم يتمّ تجنيدهم بالبحث عن طريق للخروج، ذهب كثيرون إلى الإمارات أو أربيل في كردستان العراق، أماكن لا يزال جواز السفر السوري فيها فعّالاً، قرّر عليّ الذهاب إلى تركيا، أوصى شخص ما بالطريق عبر عفرين، وهي مدينة يسيطر عليها المتمرّدون قرب الحدود الشمالية، ووضعه على اتّصال بمهرّب بشر. كانت الرحلة من المفترض أن تكون قصيرة: ليلة واحدة في عفرين، ثم إلى تركيا، ثم – كما يأمل – إلى أوروبا. لكنّ الليلة الواحدة تحوّلت إلى أربعة أشهر. تمّ اعتقال عليّ من قِبل قوّات معارضة للأسد واحتُجز في غرفة بلا نوافذ، وكان الضوء الوحيد يأتي من مصباح هاتف آسِره، الذي كان يُستخدم لتصوير مقاطع فيديو تطلب فدية، تُرسل إلى والده في جبلة. في أحد الفيديوهات، يظهر عليّ راكعاً، وظهره للكاميرا، مع كدمات حمراء على ظهره، ويداه مكبّلتان خلفه، ثم يُسمع طلق ناري مفاجئ. في المقطع التالي، يواجه الكاميرا، معصوب العينين، والدم ينزف من ذراعه اليمنى، يقول: “عائلتي، هذه الرصاصة كانت في ذراعي. التالية ستكون في رأسي”.
طالب الخاطفون بـ300 ألف دولار – مبلغ فاحش، لكنّه كشف عن افتراض راسخ لديهم: أن أي شخص من جبلة ومن الطائفة العلوية لا بدّ أن لديه مالاً، أو يعرف من يملكه. باع والده محلّ التبغ ومنزل العائلة، وانتقلوا إلى مكان رخيص في الأطراف، أحد الأبنية الكثيرة التي شيّدها مقاولون فاسدون دون أي رقابة سلامة. لم يستطع والد عليّ جمع سوى 30 ألف دولار، وافق الخاطفون في النهاية على هذا المبلغ، لكن عندما عاد عليّ إلى البيت، أصبح موضع شكّ. لم تهتمّ أجهزة الأمن في جبلة بأنه كان محتجزاً أربعة أشهر، ما كان يهمّهم هو أنه حاول مغادرة سوريا عبر عفرين الواقعة تحت سيطرة المعارضة. بالنسبة إليهم، كان هذا خيانة. تمّ استجوابه مراراً وتكراراً: من التقى؟ ماذا كان يخطط؟ بدأ الناس بالابتعاد عنه، خوفاً من أن الظهور معه قد يورّطهم هم أيضاً، ثم جاء التحذير الأخير: الجولة المقبلة من التحقيق ستكون في دمشق. توسّلت والدته إليه أن يهرب من البلاد. اختار عليّ أربيل، كان لديه أصدقاء هناك ويمكنه العثور على عمل، لكنّ جبلة – وأمّه – كان يصعب الابتعاد عنهما، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2022، عاد إلى المنزل.
“سوريا الجديدة”: حكومة نرجسيّة وجمهورها أيضاً !
سوريا بعد الأسد: من أمين الفرع إلى أمير الفرع!
الزلزال الذي غيّر تضاريس الولاء
بعد أكثر من شهر بقليل، في 6 شباط/ فبراير 2023، وقع زلزال بقوّة 7.8 درجات على مقياس ريختر، مركزه جنوب تركيا، وذلك قبيل الفجر. في جبلة، اندفع عليّ ووالداه هاربين عبر درج المبنى الرخيص الذي يسكنونه، في منتصف الطريق، اهتزّت الأرض بقوّة، وانطوى المبنى على نفسه، لم تصل أي فرق إنقاذ، فبدأ الناس بالحفر بأيديهم المجرّدة ومقالي المطبخ، بقي عليّ وأمّه عالقَين تحت الأنقاض قرابة ساعة، وعندما وصل إليهم الجيران، كان الأوان قد فات بالنسبة إلى أمّه. كانت واحدة من بين ثلاثمئة حالة وفاة مؤكّدة في ذلك اليوم، نجا والده، لكنّه أصيب بالدماغ.
الزلزال جرّد المدينة مما تبقى من ولاء للأسد، وصلت المساعدات بشكل متقطّع وغير كافٍ، تشاجر الناس على الطعام واللوازم الأساسية. لسنوات، أقنع أهالي جبلة أنفسهم بأن الرشى التي كانوا يدفعونها على الحواجز كانت شرّاً لا بدّ منه: فالشرطة هم حماة النظام، ويحتاجون إلى المال، تغاضى الناس لأنهم اعتقدوا أن النظام، رغم فساده، لا يزال في صالحهم. لكن عندما بدأت الشرطة تنهب مساعدات الزلزال، اتّضح أنهم كانوا يخدعون أنفسهم. أُجبر المتطوّعون الذين جلبوا المساعدات على تسليم ما لديهم من إمدادات: حليب أطفال، مضادّات حيوية، وقود. لم تصل أي مساعدات للضحايا إلا بعد أن حصلت الشرطة على حصّتها. الغضب الذي كان يغلي منذ سنوات انفجر، بعد أن أرسل الأسد أبناءهم إلى الجبهات وتخلّى عن عائلاتهم. بدأ الناس يعبّرون عن غضبهم تجاه الفساد على وسائل التواصل الاجتماعي، وتمّ اعتقال الكثيرين.
“الحياة” ما بعد الخدمة العسكرية
لم يعد سليمان يريد الخدمة في دمشق. عبر شبكة من الأقارب والجيران، حصل على وظيفة في جبلة، يخدم فيها قائداً محلّياً. كانت مهامه منزلية: توصيل زوجة القائد للتسوّق، وتوصيل البقّالة إلى والدته، ونقل الأطفال إلى المدرسة ومنها. وكانت الوظيفة تمنحه ساعات عمل مرنة، مما أتاح له العمل مساءً. عاد إلى المطعم الذي كان يعمل فيه قبل تجنيده، قال لي صاحب المطعم: “انفطر قلبي عندما عاد وطلب وظيفته القديمة. في ذلك الوقت، كنّا جميعاً نعرف من سرق في الجيش، ومن أخذ الرشى وخرج من الفقر. جزء مني أُعجب به لشرفه – لكنّني لم أستطع إلا أن أشعر بالشفقة عليه لمدى سذاجته، هذا الرجل قضى أحد عشر عاماً في الخدمة العسكرية، وعاد لا يحمل شيئاً سوى الديون، وكأنه عاد إلى الصفّ السابع”.
انتقل عليّ ووالده إلى شقّة مستأجرة أبعد من وسط المدينة، بدأ عليّ في تجارة الدراجات النارية، كان بحاجة إلى أي عمل للبقاء على قيد الحياة. أحياناً، كان يلتقي بسليمان في المكان القديم نفسه على الكورنيش. في أشهر الصيف، كانت لا تزال هناك مواكب من السيّارات ذات النوافذ المعتمة: وربما كانت أكثر من السابق. فقد خلقت الحرب طبقة نخبوية جديدة بالكامل، كانت ملايين الدولارات تتدفّق إلى سوريا عبر تجارة منشّط الكبتاغون، مما جعل البلاد أكبر دولة مخدّرات في العالم، وكانت الأرباح تُحوّل إلى الدائرة المقرّبة من الرئيس، كان أبناؤهم ينشرون مقاطع فيديو من المنتجعات الشاطئية ومدن أجنبية؛ وكانت هناك منشورات على إنستغرام عن حفلات زفاف فاخرة. السيّارات التي كانت في السابق رمزاً للطموح، أصبحت الآن تذكرة بما لا يمكن الوصول إليه. الشبّان مثل سليمان قضوا أكثر من عقد وهم يحمون أسلوب حياة النخبة، والآن بات واضحاً أنهم كانوا دائماً مجرّد أدوات يمكن الاستغناء عنها.
رحل الأسد…
في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، بعد أن شنّت “هيئة تحرير الشام” هجوماً مفاجئاً على قواعد الأسد ونقاط التفتيش، اختفت وحدات عسكرية كاملة عندما عرضت الهيئة عفواً عن المجندين. وفي محاولة يائسة لوقف النزيف، لجأ الأسد إلى ما تبقّى لديه: المال. أعلن عن زيادة في الرواتب بنسبة 50% لمن يبقون في الجيش، لكنّ قلّة من العلويين العاديين كانوا لا يزالون يؤمنون بالقضيّة. بدأ القادة يستهدفون طلاب الجامعات الذين كانوا قد أجّلوا خدمتهم العسكرية. وفقاً لطالب في جامعة اللاذقية، الوجهة المعتادة لخرّيجي المدارس في جبلة، كانت الحافلات، تُوقَف يومياً ويتمّ التحقّق من بطاقات الطلاب. في أحد الأيّام، صعد ضابط إلى الحافلة وصاح: “هيّا يا شباب، نحتاج إلى قوّتكم. إذا بقيتم جبناء، فلن تبقى جامعة لكم!”.
بحلول ذلك الوقت، كانت القوّات الحكومية في حالة انسحاب تامّ. في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر، استقلّ الأسد طائرة من قاعدة حميميم الجوّية، التي تبعد ثلاثة أميال فقط عن جبلة، بعد أن حصل على حقّ اللجوء في روسيا له ولعائلته. ترك خلفه دائرته المقربة. كثير منهم عبّروا لاحقاً عن غضبهم من أنه لم يأخذهم معه. وعندما دخلت قوّات المعارضة إلى مقرّ إقامة الأسد، وجدوه غير متأثر بالذعر أو الاستعجال. لا تزال صور العائلة معروضة، دفاتر بشّار مفتوحة على مكتبه. كان آل الأسد مقتنعين، حتى اللحظة الأخيرة، بأن الكفّة ستنقلب لصالحهم مرّة أخرى. ومع أن الأسد سقط على يد قوّات معارضة كانت قد أسرته سابقاً، شعر عليّ بشيء غير متوقّع: الأمل. قال لي: “كان هناك شعور حقيقي بالحماسة. شعرت وكأن الأمور ستتغيّر أخيراً”.
مدّ النظام الجديد عفوه: دُعي الجنود والمسؤولون لتسليم أسلحتهم وبطاقاتهم الشخصيّة للحصول على حماية مؤقّتة من الاعتقال، ريثما تُجرى لهم مراجعة خلفيّة، ثم تُصدر لهم بطاقات هوّية مدنية جديدة. تشكّلت طوابير قبل الفجر وامتدّت إلى أحياء كاملة: استغرق الأمر من سليمان ثلاثة أيّام ليصل إلى المقدّمة. بعض الناس لم ينتظروا: في المدن الممتدّة على طول الساحل، ظهرت البنادق في حاويات القمامة والأزقّة.
خارج المناطق ذات الأغلبية العلوية مثل جبلة، لم تكن الحماسة تجاه النظام الجديد تقتصر على النجاة الاقتصادية، فقد فُقد أكثر من نصف مليون شخص خلال الحرب؛ وأُجبر أكثر من ستّة ملايين على مغادرة سوريا، وأكثر من سبعة ملايين شُرّدوا داخلياً. لفترة طويلة، بدا أن الأسد قد يبقى إلى الأبد، ثم، فجأة، انتهى كلّ شيء، ومع سقوطه، ظهرت إمكانية – وإن كانت هشّة – للمحاسبة. في الأسابيع التي تلت انهيار النظام، اندفعت عائلات المختفين إلى مقارّ الاستخبارات السابقة. كانت الملفّات مكشوفة للجميع: أكوام من شهادات الوفاة، صور غامضة من المشرحة، قوائم بأسماء القضاة الذين أصدروا أحكام الإعدام. اعتقد الناس أن الحكومة الجديدة قد تحقّق لهم العدالة.
لكنّ أولوياتها كانت في مكان آخر، ركّزت على إعادة تقديم زعيم سوريا الجديد، أحمد الشرع، الذي كان حتى وقت قريب مطلوباً من الولايات المتّحدة مقابل عشرة ملايين دولار. وبينما كان الشرع يسعى لرفع العقوبات وكسب الاعتراف الدولي، استُقبل الصحافيون الأجانب والمبعوثون الأوروبيون في البلاد، حصلت ديبرا تايس، والدة الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في سجون الأسد في عام 2012، على اجتماع مع السلطات، قبل حتى أن يُعترف بطلبات أي من العائلات السورية، وبقي كبار مسؤولي نظام الأسد؛ أولئك الذين كانوا مسؤولين عن عدد لا يُحصى من الاعتقالات والوفيات، بمنأى عن المساءلة.
أحد هؤلاء كان محمّد حمشو، المعروف في سوريا بلقب “ملك الأنقاض”. كوّن ثروته من خلال نهب الأحياء المدمّرة وبيع الحديد الخردة. في حيّ القابون، الذي كان يوماً معقلاً للمعارضة، كانت طواقمه تجمع القضبان الحديدية من البيوت المهدّمة، كانت مصانع حمشو تستهلك هذا الحديد، كما أنه موّل بعضاً من أكثر ميليشيات النظام وحشية، ومع ذلك، ظلّ محميّاً، على ما يبدو بفضل علاقاته مع قطر عبر شقيقته، وكان هناك كثيرون مثله: فادي صقر، قائد الميليشيا المتّهم بالإشراف على مجزرة التضامن في عام 2013، التي أُعدم فيها 41 شخصاً في حفرة شرق دمشق، شوهد في اجتماعات مع الحكومة الجديدة.
ومع استمرار الحماية لمنظّمي العنف، توجّه الغضب نحو من يمكن الوصول إليهم: جيران يُشتبه بأنهم كانوا مخبرين لصالح نظام الأسد، مثلاً، في أحد الفيديوهات، يُربط من يُفترض أنه مخبر على غطاء محرّك سيّارة، يُضرب بمطرقة على رأسه.
بعد بنائين من المكان حيث كان يعيش سليمان، وصلت خمس سيّارات في استعراض للقوّة، جاءت “هيئة تحرير الشام” إلى رجل كان يدير نادياً رياضياً يُرسل الناس أطفالهم إليه لتعلّم فنون القتال، اتُهم بأنه خزّن أسلحة، وبحسب شهود عيان، لم يُبدِ مقاومة: فقط طلب أن يُؤخذ بهدوء، لا أمام الأطفال أو جيرانه، وُعد بالعفو، لكنّه احتُجز لمدّة 24 يوماً قبل أن يُفرَج عنه لعدم وجود أدلة. بعد أسبوعين، وصلت سيّارة أخرى تابعة لـ”هيئة تحرير الشام”، كان وسط الحصّة التدريبية، طلبوا منه أن يخرج، فقط لبعض الأسئلة، وبحسب طلّابه، لم يُمنح حتى الوقت لارتداء حذائه، ولم يُرَ منذ ذلك الحين.
بعد فترة وجيزة، أعلنت الحكومة عن حملة ضدّ ما أسمته “الوظائف الوهمية”، أي تلك التي يتقاضى أصحابها رواتب من الدولة دون أن يؤدّوا عملاً فعلياً. لكن في أماكن مثل جبلة، حيث كانت الوظائف الحكومية منذ زمن شريان الحياة الوحيد لكثير من العائلات العلوية، كان هذا المصطلح إهانة. الأشخاص الذين تحدّثت إليهم كانوا كتبة، عمّال نظافة، موظّفين في المدارس، لا يتجاوز راتب الواحد منهم 35 دولاراً في الشهر. فجأة، تمّ فصلهم جميعاً من العمل.
كانت هناك مقاطع فيديو تنتشر على الإنترنت تُظهر جنوداً سلّموا أنفسهم، وحصلوا رسمياً على العفو، يُجبرون على الزحف على أربع. “انبح”، صرخ أحد الرجال المقنّعين. “خنازير علوية”، قال آخر وهو يضربهم بمؤخّرة بندقيته. تمّ الاعتراف ببعض هذه الحوادث على أنها غير مقبولة من قِبل الحكومة المؤقّتة، ولكن فقط بعد أن انتشرت وأثارت الغضب العامّ. وُعد بإجراء تحقيقات. الصحافيون الموالون للنظام الجديد إما قلّلوا من الطابع الطائفي للعنف، وإما أعادوا تأطيره: “نحن مررنا بذلك، والآن جاء دوركم”.
في غياب عدالة حقيقية، بدأت مجموعات غامضة في نشر تقارير عن أعمال عنف ضدّ العلويين. حُدّد لاحقاً أن بعض الحسابات على مواقع التواصل تعود إلى جهات في إيران والعراق، وكانت تدّعي أنها تكشف الشؤون التي تتغاضى عنها الحكومة. لجعل روايتهم تبدو موثوقة، بدأوا بأحداث حقيقية، ولقطات موثّقة، ثم أضافوا صوراً مزيّفة مولّدة بالذكاء الصناعي، ومقاطع معاد تدويرها لمقاتلي “داعش” وهم يعذّبون أسرى، وأخبار كاذبة تهدف إلى إثارة الذعر. أخبروا العلويين ألا يسلّموا أسلحتهم، واتّهموا من فعلوا ذلك بالجبن، بينما نشروا وعوداً مفرطة: أن روسيا ستتدخّل لنجدتهم (ظهر فيديو على الإنترنت في 6 آذار/ مارس بدا وكأنه يُظهر طائرة روسية تطارد مروحية تابعة لـ”هيئة تحرير الشام” قرب موقع الكمين وتجبرها على التراجع) وكذلك فرنسا، بل وحتى – بشكل لا يُصدّق – إسرائيل.
ذلك الادّعاء الأخير، رغم غرابته، كان له بعض الجذور، فمنذ 8 كانون الأوّل/ ديسمبر، كانت القوّات الجوّية الإسرائيلية تقصف قواعد عسكرية في جنوب سوريا لمنع الجماعات المتطرّفة – وخصوصاً “حزب الله” – من استغلال الفوضى. أعلن بنيامين نتانياهو أن “اتّفاق فكّ الاشتباك” الموقّع في عام 1974 بين إسرائيل وسوريا أصبح لاغياً، مشيراً إلى أن القوّات الإسرائيلية ستفرض نزع السلاح في الجنوب، وعلى الرغم من أن القيادة السورية الجديدة وعدت بعدم السماح بشنّ هجمات على إسرائيل من الأراضي السورية، إلا أن القوّات البرّية الإسرائيلية عبرت إلى المنطقة العازلة الخاضعة لمراقبة الأمم المتّحدة، واستولت على مواقع استراتيجية بما في ذلك الجانب السوري من جبل الشيخ، وأقامت مواقع عسكرية متقدّمة.
ومن المفارقات أن هذا أشعل أملاً كاذباً لدى العديد من العلويين، شعروا أنهم لا يملكون من يلجأون إليه، فبدأوا يناشدون إسرائيل للتدخّل. في صحيفة “هآرتس”، نقل الصحافي زفي بارئيل رسالة تلقّاها من مراسل داخل سوريا: “أتواصل معك نيابة عن ملايين من أبناء الأقلّية العلوية. نحتاج إلى مساعدتكم ونعلم أنكم أملنا. تعالوا إلينا؛ سيكون هناك ملايين بانتظاركم. نحتاج إلى حمايتكم لأن الإرهابيين يسيطرون على دمشق، وسيهاجمون إسرائيل يوماً ما”. حتى أن بعض العلويين اقترحوا إنشاء منطقة حكم ذاتي ساحلية تحت الحماية الإسرائيلية. “إذا تركتمونا، ستكون إيران هي من تمدّ يدها لنا. لكنّنا جميعاً نكره إيران، لا تسمحوا لها بتمديد نفوذها هنا”، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت منشورات تسأل عن كيفية طلب اللجوء في تل أبيب.
فخّ الدعم الخارجي
الشبّان العلويون الذين خرجوا إلى الشوارع في جبلة والمناطق المجاورة في 6 آذار/ مارس، قتلوا نحو 140 عنصراً من “هيئة تحرير الشام”، يبدو أنهم صدّقوا المعلومات المضلّلة التي قرأوها على الإنترنت، والتي تفيد بأن تدخّلاً دولياً وشيك الحدوث. في اليوم التالي، وصلت تعزيزات حكومية بأعداد كبيرة، اختفى عليّ في جزء أكثر هدوءاً من المدينة. أما سليمان، فلم يشعر برغبة في حمل السلاح مجدّداً، حتى دفاعاً عن النفس، فبقي في منزله مع إخوته، الأبواب مغلقة، والستائر مسدلة، قالت أخته: “لم يكن أحد يعرف ما الذي يحدث بالضبط، فقط أنه قريب، كلّ ما كنّا نسمعه كان إطلاق نار وصراخ، وعرفنا أننا يجب أن نختفي”.
بدأت الكتائب تمشّط الأبنية واحداً تلو الآخر، ومن تلك اللحظة، أصبح البقاء على قيد الحياة مسألة حظّ، بعض الجنود فتّشوا الغرف بعناية، وأعادوا الأشياء إلى أماكنها، آخرون اقتحموا البيوت، وطالبوا بالنقود والذهب، وكلّ ما يمكنهم حمله. كان هذا هو المنطق الذي واجهه عليّ منذ سنوات عندما أسره مقاتلو المعارضة: الافتراض بأن كلّ من جاء من جبلة، وكلّ علوي، لا بدّ أن لديه مالاً مخبّأً في مكان ما. ثم كان هناك أولئك الذين لم يطرحوا سوى سؤال واحد: “علوي؟”. بطاقة هوّية تُظهر أن مكان الولادة بعيد عن الساحل، كانت تعني أنك ربما تكون بأمان.
أما الكتيبة التي دخلت شارع الفروي، فلم تكن هناك للتفتيش بل للانتقام، كان عليّ وآخرون قد أبدوا مقاومة شرسة في اليوم السابق، واستمرّ إطلاق النار حتى الليل، وقُتل عدد من عناصر الشرطة، اختبأ سليمان تحت السرير، وعندما كسر الجنود الباب، أمسك أحدهم بأخته البالغة من العمر 16 عاماً، قال: “أين الرجال؟”، أجابت: “لا يوجد رجال هنا”، فضربها بمؤخّرة بندقيته.
عندها خرج سليمان، لم يستطع البقاء مختبئاً بينما تُهان أخته، اقتاده الجنود إلى الخارج وأطلقوا النار عليه، على مدار الساعتين التاليتين، قالت الشهادات إن الكتيبة انتقلت من مبنى إلى آخر، وقتلت 34 شخصاً، لم يكونوا من أولئك الذين حملوا السلاح، بل من بقوا في منازلهم.
فرض الجنود حظر تجوّل ليومين، بقيت جثة سليمان ملقاة في الشارع، الرصاصة دخلت من جهة من رأسه وخرجت من الجهة الأخرى، وانحنى عمود معدني بجانب مدخل البناية بسببها، لم يجرؤ إخوته على سحب جسده إلى الداخل، بقي هناك حتى وصلت فرق الهلال الأحمر، ونقلت الجثث إلى مستشفى قريب.
عندما ذهبت عائلة سليمان لاستلام جثّته، كانت قد اختفت، علموا لاحقاً أنها دُفنت عن طريق الخطأ، سُلّمت إلى عائلة أخرى، قالت أخته: “تكريم الميت يكون بدفنه”، لكنّ سليمان الآن دُفن في قرية ليست قريتهم، وهم يخافون من زيارتها: الحواجز على الطريق قد تعني استجواباً، أو ما هو أسوأ. كانت الجنازات في المجتمع العلوي دائماً مناسبات مهيبة، تُظهر الولاء والفخر، أما الآن، فلم يكن هناك مواكب: “نتقبّل التعازي عبر الهاتف ومواقع التواصل”، كان ما تنشره العائلات، لأن التجمّع في العلن قد يكون دعوة لعنف جديد.
ومع انتشار أخبار القتل، بدأ البعض يشكّك في حدوث المجزرة أصلاً، بعض العبارات كانت مقتبسة حرفياً من كتيب النظام القديم، السطور التي استُخدمت لإنكار هجمات السارين في الغوطة في عام 2013، أصبحت الآن تُردّد من قِبل الناس العاديين: “كانوا مسلّحين”، “عملاء لقوى أجنبية يريدون الفوضى”.
كثيرون قالوا إن القتلى يستحقّون ما حصل، بعض معارضي الأسد تجاهلوا هذه الجرائم الأخيرة، لم يتجاهلوا الفظائع لأنهم توقّفوا عن رؤيتها، بل لأنهم تعلّموا الدرس: لا تتحدّث.
هرب عليّ إلى لبنان مع رجال آخرين شاركوا في القتال، وكثيرون لم يشاركوا. بعد وقت قصير من وصوله، توفّي والده، لم يستطع العودة لدفنه. في الأيام التالية، نشرت وسائل إعلام كبرى ومنظّمات حقوق الإنسان تقارير مفصّلة عن القتل. وأصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة إدانة رسمية، وبدأت الشائعات تنتشر مجدّداً حول الفدرالية والحماية الدولية.
“سوريا الجديدة”
تابع عليّ الأخبار عن كثب، أخبرني أنه متأكّد من أن منفاه سيكون قصيراً، تحدّث وكأن الحماية والفدرالية ومنطقة حكم ذاتي علوية، أمور حتمية. كان يؤمن حقّاً أنه إذا كانت السلطة تذبح مجموعة من الناس – وكان ذلك موثّقاً علناً – فلا بدّ أن يتدخّل أحد، في مكان ما. هذا اليقين كشف عن شيء يتجاوز سوء فهم الجغرافيا السياسية، أظهر مدى نجاح آلة الدعاية التي بناها النظام في التأثير عليه وعلى علويين آخرين، هذه كانت أوّل مواجهة حقيقية لهم مع عنف جماعي.
كانوا يعتقدون أن الأسد لم يرتكب قط أي مجازر، وأن مثل هذه الأشياء لم تحدث في سوريا، لقد قضوا العقد الماضي في عزلة تامّة عن الإعلام الدولي، واجتماعات مجلس الأمن، وتقارير حقوق الإنسان، لم يعرفوا أن ما حدث في الساحل لم يكن سوى فصل أخير في قصّة أطول بكثير، ومرّة أخرى، العالم سيمضي قدماً.
بين آذار/ مارس وتمّوز/ يوليو، رفعت الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة والاتّحاد الأوروبي العقوبات عن سوريا، التقى الرئيس أحمد الشرع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في الرياض، حيث وصفه ترامب أمام الصحافيين بأنه “رجل شابّ وجذاب”. وصلت وفود من الخليج بتعهّدات بإعادة الإعمار، وُقّعت صفقات استثمارية، وامتلأت التغطية الإخبارية بصور دبلوماسية وتصريحات عن “الاستقرار” و”التقدّم للأمام”، وعندما سُئلوا عن المجازر، أشار المسؤولون إلى “تحقيق حكومي مخطّط له” كدليل على أنهم يأخذون المسألة بجدّية.
وفي منتصف تمّوز/ يوليو، نُشرت نتائج تحقيق استمرّ أربعة أشهر، قُتل ما لا يقلّ عن 1426 شخصاً، معظمهم من المدنيين؛ أُجري 31 اعتقالاً، وأُحيل مئات المشتبه بهم إلى القضاء. أكّدت اللجنة أن القادة الميدانيين أصدروا أوامر بوقف العنف، لا بتأجيجه. وعلى الرغم من أن التقرير أكّد حجم المجازر، فقد صاغ الرواية على أنها بدأت في 6 آذار/ مارس، عندما شنّ موالون للأسد هجوماً وقتلوا عناصر أمن، لكنّ البدء من تلك النقطة يُغفل الأسباب التي دفعت من سلّموا أنفسهم ورحّبوا بحكومة جديدة إلى حمل السلاح مجدّداً.
ولم يذكر التقرير شيئاً عن حالات اختطاف النساء الجارية، فمنذ شباط/ فبراير، اختُطفت ما لا يقل عن 36 امرأة وفتاة علوية، تتراوح أعمارهن بين ثلاث وأربعين سنة، في اللاذقية، وطرطوس، وحمص، وحماة. وفي كلّ حالة تقريباً، فشلت الشرطة وأجهزة الأمن في التحقيق. وفي 22 تمّوز/ يوليو، ادّعت اللجنة التي فحصت المجزرة أنها لم تتلقّ أية بلاغات عن اختطاف نساء، لكن منظّمة العفو الدولية فنّدت ذلك بأدلّة موثّقة وشهادات شهود عيان، لم يتمّ اعتقال أحد.
وبالتزامن مع نشر التقرير، اندلع العنف في السويداء، المدينة ذات الأغلبية الدرزية في الجنوب. سرقة على جانب الطريق تحوّلت إلى اشتباكات واسعة النطاق بين ميليشيات درزية ومجموعات بدوية مسلّحة. نشرت القوّات الحكومية وحدات عسكرية لإعادة النظام وفرض وقف إطلاق النار، لكن، كما في جبلة، ارتكبت هذه الوحدات انتهاكات واسعة، بما في ذلك النهب وأعمال الانتقام الجماعي ضدّ الدروز. وبعدها، شنّت إسرائيل غارات جوّية استهدفت دمشق ومواقع عسكرية قريبة، زاعمة أن هدفها حماية المدنيين الدروز، منحت هذه الغارات الحكومة الجديدة ذريعة لاتّهام المقاتلين الدروز بأنهم “عملاء إسرائيليون”، مما غذّى مزيداً من التصعيد.
في البداية، لم تسمح وزارة الخارجية السورية للمنظّمات الإنسانية الدولية بدخول السويداء، وقيّدت دخول الصحافيين الأجانب. أظهرت مقاطع فيديو من المدينة رجالاً مسلّحين – بعضهم يرتدي الزيّ الرسمي – ينفّذون إعدامات على الطريقة الميدانية ويسخرون من الضحايا. في أحد المقاطع، يُجبر جندي ثلاثة شبّان دروز غير مسلّحين على القفز من شرفة، ثم يُطلق النار عليهم وهم يسقطون؛ مشهد يكاد يتطابق مع إحدى لقطات مجزرة التضامن. وعندما سُمح للأمم المتّحدة أخيراً بالدخول، وصفت الوضع بأنه “حرج”، مع أكثر من 175 ألف نازح في المحافظة. أما الحكومات التي احتضنت القيادة السورية الجديدة، فقد أصدرت بيانات تعترف بالفظائع، لكنّها سرعان ما كرّرت دعمها للنظام الجديد.
في سوريا الجديدة، كما في سوريا القديمة، يبدو أن من يرتكب العنف يمكنه الاعتماد على “التأهيل”، طالما أنه يصوّر البديل على أنه الفوضى.
نُشرت هذه المقالة باللغة الإنكليزية في مجلّة london review of books تحت عنوان “خدعونا”.