في روايته الشهيرة Catch-22، يقصّ الكاتب الأميركي جوزيف هيلر بأسلوبٍ يمزج بين الكوميديا السوداء والنقد العميق للحرب والبيروقراطيّة، قصة النقيب “يوساريان”، وهو طيّار قاذفة أميركيّة خلال الحرب العالمية الثانية، حاول التوقف عن تنفيذ المهام القتالية. لكن كل محاولة للانسحاب كانت تصطدم بقواعد بيروقراطية معقدة تجعل الأمر مستحيلًا. أهم تلك القواعد كان قانون Catch-22 المصمَّم لإبقاء المقاتلين والطيارين تحديدًا في دائرة القتال حتى النهاية: فالطيار يُعفى من الخدمة إذا كان مجنونًا، لكن إذا طلب الإعفاء فهذا دليل على أنه عاقل، وبالتالي لا يُعفى.
ومنذ صدور الرواية، دخلت عبارة Catch-22 القاموس الإنجليزي لتصف أي مأزق يستحيل الخروج منه. ومن هنا نبدأ.
قرار حكومي يفتح الصندوق الأسود للسلاح
في الثالث والخامس من آب/أغسطس 2025، عقدت الحكومة اللبنانية جلستين متتاليتين: الأولى بحضور كامل أعضائها، والثانية بغياب المكوّن الشيعي كليًا، بغضّ النظر عن المبرّرات. خلال هاتين الجلستين، تبنّت الحكومة أهداف مذكرة الموفد الأميركي توم براك، وقرّرت تكليف الجيش إعداد خطة لنزع سلاح حزب الله، على أن يبدأ التنفيذ من الأول من آب وينتهي مع نهاية كانون الأول/ديسمبر 2025.
هذا القرار مثّل تحوّلًا جذريًا في مقاربة الدولة لمسألة السلاح، بعد عقود من المواربة والتأجيل وربط الملف بتسويات إقليمية. للمرة الأولى، بدا وكأن الحكومة تحاول ترجمة المطالب الدولية والإقليمية كما مطالب الكثير من القوى المحلية إلى خطوات عملية على الأرض.
خطاب قاسم: تهديدٌ بالفتنة و”كربلاء سياسية”
بعد أسبوع، جاء الرد على لسان نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم يوم الجمعة 15 آب/أغسطس، متّهمًا الحكومة اللبنانية بأنها “تقوم بخدمة المشروع الإسرائيلي وواجبها بناء البلد وليس تسليمه للعدو”، معتبرًا أنها “ارتكبت قرارًا خطيرًا جدًا ينتهك الميثاق الوطني ويدمّر الأمن الوطني”. مشدّدًا على أنها “تتحمّل كامل المسؤولية لأي فتنة ممكن أن تحصل وتتحمّل مسؤولية أي انفجار داخلي وأي خراب للبنان، وتتحمّل المسؤولية بتخلّيها عن واجبها في الدفاع عن أرض لبنان ومواطنيها”. وختم بالقول: “لا يمكن أن يُبنى لبنان إلا بكل مقوماته، فإمّا أن يبقى ونبقى معًا، وإمّا على الدنيا السلام”.
بهذا الكلام، أعلن الحزب عمليًا استحالة تسليم السلاح طالما هناك عدوان واحتلال. وطالب الحكومة بالعمل على وقف الاعتداءات الإسرائيلية وإخراج إسرائيل من لبنان، مقابل استعداد الحزب لإبداء التسهيلات الإيجابية في مناقشة استراتيجية الأمن الوطني. لكنه في الوقت نفسه لوّح بأن أي محاولة للمسّ بسلاح المقاومة ستقود إلى معركة “كربلائية” لا تُبقي ولا تذر.
سلام يردّ: حكومة سيّدة لا تخضع للإملاءات
رئيس الحكومة نواف سلام لم يتأخر في الرد، معتبرًا أن تصريحات نعيم قاسم تحمل تهديدًا مبطّنًا بحرب أهلية، ومحذرًا من “التصرفات اللامسؤولة التي تشجّع على الفتنة”. وفي حديث لصحيفة الشرق الأوسط، قال: “الأكيد أن هذه الحكومة هي حكومة لبنانية وطنية. تأخذ قراراتها من خلال مجلس الوزراء، وهي ليست خاضعة لإملاءات، بل لمطالب اللبنانيين منها. أعتقد أن اللبنانيين، بغالبيتهم الساحقة، هم مع قرارات الحكومة اللبنانية التي تضع اليوم خطة تنفيذية لحصر السلاح. ليس عندي أي شك بهذا الأمر. حرام الكلام عن أن هذه الحكومة خاضعة لإملاءات. للأسف، لا أريد أن أقول هذا كي لا أدخل في سجالات، لكنني أعرف من هو الخاضع لإملاءات، ومن الذي يستمع للإملاءات، ومن الذي اعتبر نفسه امتدادًا لأطراف خارجية. لا أحد منا في هذه الحكومة يعتبر نفسه امتدادًا لأي طرف خارجي”.
الجيش بين المطرقة والسندان
أمام قرار مجلس الوزراء، يصبح الجيش في مواجهة خيارين أحلاهما مرّ:
– الالتزام بالقرار ووضع خطة لنزع السلاح، وهو ما قد يفرض مواجهات محدودة مع الحزب، لكنها قد تتدحرج إلى صدامات أوسع وحرب أهلية مصغّرة او ما شاكل.
– أو الامتناع عن التنفيذ، وهو ما يفقد الدولة ما تبقى من هيبتها وصدقيتها أمام المجتمع الدولي، ويضعف قدرتها على فرض سلطتها على أراضيها.
والحكومة نفسها أمام خيارين لا يقلّان خطورة:
– إما التمسك بقرارها المدعوم من غالبية سياسية وازنة، بما فيها قوى كانت في السابق حليفة للحزب، وهو ما يعني عمليًا عزل مكوّن لبناني أساسي ومسلّح.
– أو التراجع عن القرار، ما يفقدها سبب وجودها، ويفرض على رئيسها الاستقالة والخروج من الحكم.
مأزق الحزب… وهواجس طهران
لكن المأزق الأكبر يبقى من نصيب حزب الله نفسه، ومن خلفه إيران. فتسليم السلاح يعني هزيمة كاملة أمام إسرائيل وخصومه اللبنانيين، وتسليم أوراق القوة إلى الغرب وحلفائه في الداخل. كما أنه يعني خسارة إيران درّة تاجها الإقليمي، بعدما فقدت عقدة الوصل السورية. وفي المقابل، فإن التمسك بالسلاح سيؤدي إلى استمرار الضربات الإسرائيلية واستنزاف بيئة الحزب الداخلية، التي ترزح أصلًا تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة. ويكفي التذكير بما أعلنه رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي إيال زامير، بأن قواته شنت600 غارة واغتالت240 من عناصر حزب الله منذ التوصل لاتفاق وقف النار في السابع والعشرين من شهر نوفمبر2024 .
الداخل مأزوم والخارج متربّص
تكمن خطورة المأزق في أنه لا يقتصر على الداخل اللبناني. الغرب ومعه إسرائيل يعتبران اللحظة مؤاتية لتفكيك قوة الحزب بعد انحسار النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، فيما تراهن طهران على إبقاء الحزب ذراعًا ضاربة، لتعويض خسائرها أو التخفيف منها في ساحات أخرى، وخصوصاً بعد الضربات الإسرائيلية لإيران نفسها بدعم أميركي جلي. أما لبنان الرسمي، فهو محشور بين ضغوط الخارج واستحالات الداخل، عاجز عن فرض سلطته أو حماية مؤسساته من التآكل.
ثلاثة مخارج ضيّقة للخروج من الفخ
يمكن تصوّر ثلاثة مسارات رئيسية للخروج من هذا الفخ:
1- تسوية شاملة برعاية إقليمية ودولية: تقوم على مقايضة متكاملة تشمل ضمانات أمنية للحزب، وإشراكه في منظومة الدفاع الوطني، مقابل تسليم تدريجي للسلاح الثقيل، مع إطلاق مسار إصلاح سياسي واقتصادي يخفّف الاحتقان الداخلي.
نجاح هذا السيناريو مشروط بتفاهم أميركي–إيراني أو على الأقل بتهدئة بينهما.
2- استنزاف طويل الأمد: تستمر فيه إسرائيل بضرباتها، وتتواصل الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية، لدفع الحزب إلى القبول بالتسوية تحت وطأة الإنهاك. لكن هذا الخيار يحمل مخاطر كبيرة على الاستقرار اللبناني، وقد يفتح الباب أمام انهيار أمني شامل.اضافة إلى الإجماع الخارجي بأن الحزب آخذ في ترميم بنيتيه العسكرية والمدنية، بطريقة مختلفة تمامًا عن السابق، ما قد يعيد الروح لأعمال قتالية مع إسرائيل ولو بشكل مختلف.
3- تغيّر في موازين القوى الإقليمية: نتيجة تحوّل كبير في أحد الملفات الساخنة كالحرب في غزة أو الملف السوري أو النووي الإيراني، ما قد يفرض على جميع الأطراف إعادة حساباتهم، ويفتح المجال لتسوية غير متاحة اليوم. يكفي التذكير بأن العالم يتحول مع تحولات موازين القوى. فترامب شخصيًا أخرج بوتين من عزلته العالمية بعد لقاء آلاسكا، بسبب تغير موازين القوى لصالح الأخير في مواجهة أوكرانيا ومن خلفها أوروبا وأميركا نفسها.. إلى حين.
خاتمة: الـCatch-22 اللبناني
وبانتظار ما سيحمله توم باراك ورفيقته في المهمة مورغان أورتاغوس، بعد زيارة شد العصب لعلي لاريجاني، والعمل الأميركي على تعطيل مفاعيلها، يكون اللعب على رقعة الشطرنج اللبنانية لا يزال في بداياته. لكن كما في رواية هيلر، كل طريق يقود إلى مأزق أكبر: إذا سلّم الحزب سلاحه خسر وجوده السياسي والعسكري، وإذا تمسّك به استُنزف في مواجهة مفتوحة لا تنتهي. أما الدولة، فإن فرضت قرارها واجهت خطر الانفجار الداخلي، وإن تراجعت فقدت ما تبقّى من هيبتها.
إنه الـCatch-22 اللبناني بامتياز: فخّ دائري مغلق لا يملك أي طرف مفتاح الخروج منه، ما لم تتغيّر شروط اللعبة على مستوى الإقليم برمّته.