مع عودة آلاف السوريين إلى مدنهم عقب سقوط النظام في كانون الأول (ديسمبر) 2024، وجد العائدون أنفسهم أمام مشاهد صادمة للدمار العمراني، وحقيقة العجز المؤسسي الشامل للحكومة المؤقتة أمام إرث الدمار الهائل. المباني المهدمة، وشبكات الخدمات شبه المنهارة، والمؤسسات الحكومية المشلولة، لم يتركوا خياراً أمام المجتمع سوى ابتكار استجابات ذاتية. من هنا برزت مبادرات أهلية متنوّعة في جميع المحافظات والمدن والبلدات تقريباً، أخذت شكل حملات تنظيف للأحياء أو جمع تبرعات لإعادة تأهيل المدارس والمراكز الصحية، سرعان ما اكتسب بعضها زخماً لافتاً، وأظهرت قدرةً كبيرةً للمجتمعات المحلية على تعبئة مواردها وتنظيم نفسها خارج قنوات الدولة. مبادرات مثل «الوفاء لحلب»، و«أربعاء حمص»، و«أبشري حوران»، لم تكن مجرد تعبير عن الصدمة أو الارتباط العاطفي بالمدن والرغبة في المساهمة في إعادة إعمارها نتيجةً لعقدة الناجي فقط، بل يمكن فهمها كإعلان غير مباشر عن عودة المجتمع إلى الفضاء العام باعتباره فاعلاً قادراً على تحديد أولوياته وإدارة موارده.

ولذلك لا يمكن اختصار هذا الشكل من المبادرات في بعده الإغاثي أو التنموي، لأنه يثير أسئلة أعمق تتعلق بطبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في مرحلة ما بعد النزاع. هل تمثل هذه المبادرات مجرد رد فعل مؤقت على غياب الدولة، أم أنها نواة لإعادة بناء المجتمع المدني على أسس جديدة؟ وكيف يمكن فهم موقف الدولة إزاءها، بين القبول والدعم من جهة، ومحاولات الاحتواء وإعادة التوظيف من جهة أخرى؟ هذا المقال يحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحليل المبادرات الأهلية السورية بوصفها مؤشراً على إمكان التحول من «الفزعة الاجتماعية» إلى صياغة أولية لعقد اجتماعي جديد.

لفهم هذه الأسئلة من زاوية أوسع، من المفيد العودة إلى المثال الأميركي في القرن التاسع عشر. عندما زار ألكسيس دو توكفيل الولايات المتحدة لاحظ شيئاً مدهشاً، وصفه في كتابه الموسوم الديمقراطية في أميركا، والذي نُشر بجزأين في 1835 و1840، لم يكن الأميركيون حين ذاك في القرى والمدن الصغيرة ينتظرون الحكومة لتبني مدرسة أو تصلح طريقاً. بل كانوا يشكلون جمعيات طوعية لهذا الغرض، يجمعون المال، ينظمون العمل، يوزعون المسؤوليات، ويحاسبون من يتولى التنفيذ. هكذا ظهرت مئات الجمعيات التي اهتمت بكل ما يتعلق بالحياة اليومية من التعليم والصحة وحتى الفنون. ما رآه توكفيل لم يكن فقط حلولاً عملية لمشكلات آنية، بل كان مدرسة ديمقراطية، على حد تعبيره، يتعلم فيها المواطنون فن الإدارة المشتركة. بالنسبة له، كان سرّ الديمقراطية الأميركية في هذه القدرة الجمعية على التنظيم الذاتي، لا في النصوص الدستورية وحدها. الجمعيات علّمت الناس النقاش، واتخاذ القرار، والمحاسبة، وأبقت الدولة في موقع الخادم بدل أن تتحول إلى سيد متحكم.

إذا أسقطنا هذا المنظور على الحالة السورية، يمكن القول إن المبادرات الأهلية الناشئة تحمل بذوراً مشابهة. فهي تنظّف شوارع وترمّم مبانيَ وتجمع المال، لكنها في الوقت نفسه تفتح فضاءً عاماً للنقاش والمشاركة. فحين يجتمع السكان لتحديد أولويات حيّ أو لتقرير كيفية إنفاق التبرعات، فإنهم يُعيدون ممارسة السياسة من نقطة قريبة جداً من تفاصيل حياتهم. هذا الفعل، وإن بدا بسيطاً، يُمثل إعادة اختراع للسياسة من الأسفل. وهو أيضاً إعادة بناء لشبكات الثقة التي أضعفتها سنوات الحرب، جارٌ يثق بجاره، متبرعٌ في الخارج يثق بلجنة محلية، متطوعٌ يثق أن عمله لن يذهب سدىً. إعادة بناء هذه الثقة تمثل رأس مال اجتماعي جديد لا يقل أهمية عن البنى المادية.

لكن يبقى السؤال، هل يكفي هذا لتشكيل مجتمع مدني؟ بالمعنى الدقيق، المجتمع المدني هو شبكة مؤسسات مستقلة ودائمة، لها قواعد واضحة وقدرة على ممارسة الضغط على الدولة. المبادرات السورية ما تزال بعيدة عن هذا التعريف، فهي أقرب إلى فزعات جماهيرية مؤقتة. هنا تفرض المقارنة نفسها مع تجربة المجتمع المدني السوري خلال سنوات الحرب. إذ ظهرت مئات الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، لكنها بقيت أسيرة التمويل الخارجي أو خاضعة لسلطات الأمر الواقع، ولم تتحول إلى قوة رقابية أو سياسية. كانت أقرب إلى هيئات خدماتية محلية تتعامل مع الإغاثة أكثر مما تتعامل مع الشأن العام. الفرق اليوم أن الدولة نفسها ضعيفة وتعتمد على موارد المجتمع، بينما يحتاج المجتمع إلى خدماتها. هذا التوازن الهش يفتح الباب أمام علاقة جديدة إذا استُثمرت جيداً، لكن خطر العودة إلى النمط القديم قائم إذا بقيت المبادرات في حدود الطوارئ ولم تُؤسَّس على قواعد شفافة ودائمة.

هنا تبرز الفكرة أن المبادرات لا يجب أن تبقى مجانية بالكامل. فالمجانية بهذا المعنى ليست فضيلةً بل قيد، لأنها تجعل المبادرة رهينة العطاء العاطفي الذي قد يتراجع مع الوقت، ولأنها تُعفي الدولة من مسؤولياتها عبر إظهار أن المجتمع قادرٌ وحده على سدّ الفراغ. فالمبادرة التي تبقى مجانية تماماً هي مبادرة تؤدّي وظيفة الدولة بدل أن تحاسبها، أما المبادرة التي تضع نفسها في موقع الشريك الممول أو المساعد فهي مبادرة تخلق معادلة جديدة تجعل المجتمع طرفاً تفاوضياً لا بديلاً خيرياً. ولهذا فإن كسر المجانية هو المدخل لتحويل التضامن الشعبي إلى فعل سياسي مستدام، عبر الإصرار على أن كل مبادرة يجب أن تقرن خدماتها بمطالبات رسمية من الدولة.

فما يحدد مصير هذه التجارب هو قدرتها على التحول من خدمة آنية مجانية إلى فعل سياسي بالمعنى الواسع. فإذا استطاعت أن تنتظم في شبكات، وأن تنتج بيانات علنية وآليات متابعة، فإنها لا تصبح فقط مبادرات خدماتية بل أدوات ضغط على الدولة. هنا يصبح من الممكن أن تتحول «الفزعة الاجتماعية» إلى عادة سياسية، وإلى لغة تفاوض تفرض نفسها حتى على السلطة. وفي حال نجحت في ترسيخ استقلالها، فإنها تستطيع أن تجبر الدولة على الإصغاء لمطالب الناس، أو على الأقل أن تتردد قبل اتخاذ قرارات تمس مصالح المجتمع من دون مشاركته. ولكن إذا خضعت هذه المبادرات لهيمنة رجال الأعمال والمتبرعين الكبار ممن يحاولون استغلالها لمحاباة الحكومة، أو إذا استوعبتها السلطة وحولتها إلى واجهات شكلية، فإنها ستفقد قدرتها على أن تكون قوة مدنية مستقلة.

القيمة الحقيقية لهذه المبادرات لا تكمن في قدرتها على ملء الفراغ الخدمي وحده، بل في إمكان تحولها إلى قوة سياسية عملية تفرض حضورها في إدارة الشأن العام على المستوى المحلي مبدئياً. فميزة المجتمع المدني الفاعل هي قدرته على خلق فضاءٍ عامٍ يحاسب مَن بيده السلطة ويمنع عودتها إلى الاستبداد. بهذا المعنى يمكن للمبادرات أن تتحول إلى مجالس ضغط محلية تضع أجندات سياسية واضحة تتعلق بميزانيات البلديات، وبكيفية توزيع الموارد، وبأولويات إعادة الإعمار. فعندما يجتمع سكان منطقة ما حول قضية محددة مثل منع استثمار الأراضي العامة في مشاريع تخدم قلة من المتنفذين، أو المطالبة بوقف مشروع لا يعكس حاجات المجتمع، فهم يمارسون السياسة بأكثر معانيها واقعية.

المجتمع المدني من هذا المنظور لا يولد من الإحسان وإنما من الصراع على من يقرر، ومن يمتلك الشرعية في إدارة الموارد العامة. وحين تنجح المبادرات في صياغة بيانات تعلن فيها مطالبها، وحين تتوسع لتشكل شبكات على مستوى المدينة/المحافظة، فإنها تتحول إلى فاعل سياسي مستقل، قادر على أن يفرض على منظومة الحكم المحلي، أياً كان شكلها، أن تستجيب أو على الأقل أن تدخل في مفاوضات. هذا التحول يفتح أمامها مجالات ضغط تتجاوز الجانب الخدمي، من قبيل مراقبة البلديات ومنعها من الانفراد بالقرارات، مساءلة السلطات الأمنية عن الانتهاكات داخل المدن، المطالبة بتمثيل المجتمع في لجان إعادة الإعمار الوطنية، خلق منصات إعلامية محلية تنشر المعلومات وتفضح الفساد، أي ممارسة دور في الرقابة المجتمعية. إن هذه الخطوات تجعل المجتمع المدني قوة سياسية عملية تضع نفسها كشريك على طاولة القرار بدل أن تبقى مجرد رد فعل على الفراغ الخدمي.

لا بدَّ للمبادرات الناشئة وما سيتبعها من مثيلاتها من أن تعي أن مجال عملها لا ينحصر في جمع التبرعات، بل يمتد إلى صياغة علاقة جديدة مع السلطة المحلية والمركزية. وهذا يتطلب أولاً بناء هياكل مستقلة تُنظّم المشاركة الشعبية وتمنحها طابعاً مؤسسياً، مثل تحويل اللجان الشعبية إلى مجالس أحياء ومدن ومحافظات قادرة على اتخاذ قرارات جماعية ملزمة، بحيث لا يبقى الفعل رهين الحماس اللحظي بل يتحول إلى ممارسة متكررة. كما يتطلب أن تضع هذه المبادرات قواعد شفافية واضحة، بنشر حساباتها المالية وفتحها للرأي العام، وبإشراك المتطوعين في الرقابة على التنفيذ، لأن هذه الممارسات هي وحدها التي تؤسس لثقة طويلة الأمد.

يتم الانتقال من مستوى الخدمة إلى مستوى الضغط السياسي حين تجعل المبادرات الأهلية كل فعل خدمي تقدمه مناسبة للتفاوض. والمجالات التي يمكن أن يمارس فيها هذا الضغط عديدة. ففي مجال الخدمات البلدية يمكن للمبادرات أن تبدأ من مراقبة آليات جمع النفايات والمياه والكهرباء وتوثيق الأعطال والانقطاعات وتضعها أمام الجمهور، بحيث تُجبر السلطة على الاستجابة خشية فقدان شرعيتها. وفي مجال إعادة الإعمار يمكن للمبادرات أن تعترض على مشاريع ضخمة لا تخدم الأهالي مباشرة، كما حدث في حمص مع مشروع (بوليفارد النصر)، وأن تطالب السلطة بمراجعة أولوياتها بما يتناسب مع حاجات السكان الفعلية، وتعييناتها أيضاً على مستوى المحافظة، كما طالب بيان لناشطي ومثقفي دير الزور وجِّه إلى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. وحتى في المجال الرمزي، أي في إدارة الفضاء العام، يمكن للمبادرات أن تواجه قرارات السلطة التي تحاول فرض سيطرة رمزية على الساحات والشوارع، كما حدث في قضية تمثال  ساحة سعد الله الجابري في حلب.

بهذه الطريقة تصبح المبادرات أكثر من مجرد أدوات إغاثة، بل قوة رقابية محلية، تمارس دوراً شبيهاً بالإعلام المستقل أو النقابات في الديمقراطيات المستقرة. وهذا المسار ليس مستحيلاً في سوريا، وإنما ممكن إذا نجحت المبادرات في أن تضع لنفسها تقاليد عمل تضمن الاستمرارية والاستقلالية. فتحويل الخدمة إلى أداة تفاوض، وربط العمل الأهلي بالمساءلة، وإنتاج معرفة مدنية عبر تقارير دورية، كلها عناصر تجعل من هذه المبادرات شريكاً لا يمكن تجاوزه في صياغة مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع.

وفي هذا السياق يكتسب مثال حملة «أبشري حوران» في درعا أهمية خاصة. فالحملة نجحت في جمع أكثر من ستة وثلاثين مليون دولار خلال يومها الأول، متجاوزة الهدف المعلن بنسبة تفوق المئة في المئة، في مشهد أبرز القوة التعبوية للمجتمع حين تتوافر الثقة والشفافية. غير أن دخول الحكومة على خط الحملة من خلال إعلان وزير المالية تخصيص عشرة ملايين دولار، ووعده بمضاعفة تبرعات رجال الأعمال بنسبة عشرين في المئة، يعكس محاولة واضحة لاحتواء هذه الديناميكية الشعبية وإعادة إدراجها ضمن الإطار الرسمي. من جهة، يبدو الدعم الحكومي خطوة إيجابية تُوفّر موارد إضافية وتمنح الحملة غطاءً رسمياً. لكن من جهة أخرى، قد يعكس هذا التدخل إدراك الدولة لخطورة أن تتحول المبادرات الأهلية إلى فاعل مستقل يمتلك شرعية خاصة وقدرة على تعبئة الناس خارج قنواتها. بهذا المعنى يصبح الدعم نوعاً من «الاحتواء الإيجابي»، حيث لا تعارض السلطة الظاهرة بل تسعى إلى استيعابها تدريجياً وإفراغها من بُعدها المستقل. ويزداد الأمر دلالةً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن درعا كانت رمزاً للتمرّد والثورة منذ عام 2011، ما يجعل رعاية الحكومة للحملة فعلاً رمزياً أيضاً لاستيعاب طاقة المحافظة الشعبية ضمن خطاب الدولة.

التحدي هنا أن المبادرات الشعبية تفقد جانباً كبيراً من فاعليتها إذا تحولت إلى مشاريع مشتركة مع السلطة، إذ يصبح المجتمع طرفاً ضعيفاً في علاقة غير متكافئة تحتكر الدولة فيها الموارد والشرعية. ومع ذلك، فإن حجم الأموال الذي جُمع بسرعة، وتعدُّد الشركاء المحليين والدوليين من المنظمات، يمنح الحملة قاعدة شرعية قد يصعب على الدولة استيعابها كلياً. النتيجة ستتوقف على قدرة القائمين على المبادرة على إدارة العلاقة مع الحكومة بحيث تبقى شراكة تفاوضية لا وصاية.

وإذا كانت تجربة «أبشري حوران» تكشف استراتيجية الاحتواء المحلي، فإن مرسوم إنشاء «صندوق التنمية» وفعالية إطلاقه يعكسان مستوىً آخر من تدخل الدولة، هذه المرة عبر المأسسة المركزية. فالصندوق يوصف بأنه مؤسسة ذات طابع اقتصادي تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، لكنه مرتبط مباشرة برئاسة الجمهورية ويُدار بقرارات تعيين مركزية. مصادر تمويله قائمة على التبرعات الفردية وبرامج الاشتراكات والهبات، أي على الموارد ذاتها التي أثبتت المبادرات الأهلية قدرتها على تعبئتها. بهذا يصبح الصندوق محاولة لتأميم موارد المجتمع وإعادة إدخالها في قنوات رسمية. صحيح أن المرسوم ينص على آليات رقابية عبر شركات تدقيق مالية حيادية، وهو ما يُتيح للمجتمع المدني منفذاً محتملاً للمطالبة بالشفافية، لكن غياب أي تمثيل مُنظّم للمبادرات الأهلية أو القطاع الخاص المحلي في مجلس إدارته يكشف أن الصندوق صُمّم ليبقى أداة بيد السلطة. الفرصة الوحيدة أمام المبادرات الأهلية الحالية والمستقبلية منها، هي الحفاظ على استقلاليتها وعدم الذوبان فيه أو الاستسلام له كبديل عنها، بل التعامل معه من مدخل تشاركي تفاوضي يفرض شفافية حقيقية ويمارس رقابة فعليّة، لا أن تكتفي بدور الممول أو المنفذ. وإلا فإن الصندوق سيتحول إلى قناةٍ تمتصُّ كل أشكال التضامن الأهلي وتُعيد إنتاج المركزية التي حاولت هذه المبادرات كسرها.

أخطر ما يواجه المبادرات الأهلية اليوم ليس فقط محدودية الموارد أو صعوبة الاستمرارية، بل خطر الاحتواء. فالدولة، وقد أدركت حجم الطاقة التعبويّة الكامنة في المجتمع، لم تعد في موقع الغياب التام كما كانت في الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام، بل بدأت تتدخل بوسائل مختلفة لإعادة الإمساك بزمام المبادرة. أحياناً يكون ذلك عبر دعم محلي مباشر يلبس لبوس الشراكة، كما في حالة «أبشري حوران»، وأحياناً أخرى عبر مأسسة مركزية واسعة النطاق كما في «صندوق التنمية». في الحالتين، الهدف واحد، إعادة إدماج الفعل الأهلي في قنوات رسمية تخضع لسلطة المركز، بحيث يُفرّغ تدريجياً من استقلاليته ويَتَحول إلى مجرد امتداد للجهاز الحكومي.

وهذا لا يقل خطورةً عن انهيار البنية التحتية أو شح الموارد، لأنه يقوّض المغزى الأساسي للمبادرات الأهلية في أن تكون فضاءً للتنظيم الذاتي، ومجالاً لتجديد الثقة بين الناس، ونواةً لمجتمعٍ مدني قادر على مراقبة الدولة ومساءلتها. فإذا استُدرجت هذه المبادرات إلى الاكتفاء بدور تنفيذي أو دعائي، فإنها تفقد شرعيتها الشعبية وتتحول إلى أدوات تُبرّر السياسات بدل أن تقيّدها. لذلك يصبح الحفاظ على الاستقلالية والشفافية شرطاً وجودياً، لا مجرد تفصيل تنظيمي.

المعادلة بسيطة، إمّا أن ينجح المجتمع في تحويل هذه الفزعات إلى حالة تنظيمية دائمة تستند إلى آليات محاسبة داخلية وتبني شبكات أفقية بين المدن والأحياء، وإمّا أن يُسمح للسلطة بأن تعيد تدويرها كقنوات تبرّع رسمية تفقد معناها السياسي. حينها ستبقى تلك «الفزعات» مجرد مرويات شعبية راسخة في ذاكرة المحافظات عن قيم التضامن، لكنها ستفقد وظيفتها في رسم ملامح عقد اجتماعي جديد.

ختاماً، إن اللحظة الراهنة تحمل إمكاناتٍ استثنائية، حكومة ضعيفة لا تزال تبحث عن الشرعية، مجتمع أثبت أنه قادر على تعبئة موارده، وفضاء عام مفتوح يُعاد تشكيله. لكن هذه الإمكانات ليست مضمونة؛ فهي قد تُفضي إلى شراكة متوازنة تقيّد الدولة وتجعلها في موقع الخادم للمجتمع، أو قد تنتهي إلى استيعابٍ يُعيد إنتاج مركزية خانقة. الرهان كله يتوقف على وعي السوريين بضرورة حماية مبادراتهم من الامتصاص، وتصميمهم على تحويل الفعل التضامني إلى فعل سياسي مؤسسي. فإذا تحقق ذلك، فإن «الفزعة الاجتماعية» لن تبقى مجرد استجابة لأزمة، بل ستصبح نقطة انطلاق لعقد اجتماعي جديد يُؤسّس لسوريا مختلفة.