من المؤسف أن يحتاج السوريون على مستوى القاعدة والنخب، ومن الثوريين والموالين على حد سواء. لأربع سنوات للوصول إلى قناعة بأن المشكلة في سورية “ما خلصت”، ومن المؤلم أن ندفع ثمن الوصول لهذه النتيجة مئات الآلاف من الشباب السوري، شهداء، ومعتقلين ومشردين.
أعتقد أن نجاح أي عمل يعتمد بدرجة أولى على وضوح الهدف، والرؤية، والوسائل، والإمكانات.
بعد أن حلت كلمة “مطولة” بديلاً عن “خلصت”، أصبح من الواجب والضروري أن نسأل أنفسنا من أين نبدأ ؟
قبل ضياع البوصلة السياسية للشعب السوري، وقبل دخوله في متاهات التعقيدات الداخلية، والدولية، أعلنت الثورة على لسان شبابها ما تريد، أعلنتها بشعاراتها، وبوضوح أعلنتها باسمها، “ثورة الحرية والكرامة” . وإذا كانت الحرية والكرامة مفهومان فكريان بامتياز، فإن مرادفيهما السياسيين هما الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان . وهو، ضمن الواقع السياسي والجغرافي الحالي، لا يتحقق إلا ببناء دولة وطنية حديثة .
قد نكون اليوم أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى إعادة بناء المفاهيم التي قد تبدو بديهية، كمفاهيم المواطن، والمواطَنة، والشعب، والدولة، والحرية، والقانون، والحزب . ربما لا يحتاج الإنسان في الغرب لذلك لأن هذه المفاهيم مدركة لديه بحكم طبيعة الأنظمة السياسة، والمجتمعية. فهو يدركها دون أن يتعلمها. لا بد من العودة إلى الأسس الأولى، وإن بدا ذلك ترفاً فكرياً اليوم لكنه في الواقع هو الأساس، وهو الخطوة الأولى على طريق الألف ميل، والوقت الذي نبذله على هذا الطريق لا بد من دفعه، وأن نبدأ اليوم خير من أن نستمر في المسير نحو الخلف، ونحو مزيد من التخلف والتأخر.
في الصف السادس الابتدائي، عرّف لنا معلم مادة الرياضيات – الدائرة – بأنها “خط منحن مغلق تبعد جميع نقاطه بعداً متساوياً عن نقطة ثابتة داخله تسمى المركز″. لم أجد يومها صعوبة في حفظ هذا التعريف، وترديده كالببغاء بسهولة. الآن وقد تخرجت من كلية الهندسة المدنية، أحاول أن أمسح شكل الدائرة من ذهني، وإعادة تشكيله من جديد بناء على التعريف السايق .. وبكل صدق أجد صعوبة هائلة في تخيل شكل “الدائرة” ، بينما، وبكل بساطة ويسر يستطيع طفل بعمر ثلاث سنوات إدراك الدائرة، دون الحاجة إلى أن يدخل في تعقيدات التعريف، وذلك بمجرد رؤية مجموعة من الصور، كعجلة دراجته، ومقود السيارة، أو قطعة العملة المعدنية، ويطلق عليها اسم دائرة دون عناء، ويطالب البائع في البقالية بـ “كعكة مدورة”.
إن هذا الفارق بين التعريف، والإدراك ينسحب أيضاً على العلوم كلها، والسياسة منها.
مشكلتنا في العالم العربي، أن معظم المفاهيم الحديثة غير مدركة لدينا بعد . لذلك ترانا نرهق ذواتنا، ونجهد أنفسنا، والآخرين، في الغوص في التعاريف لمفاهيم لم تتوضح في أذهاننا . يزيد الأمر سوءاً عندما نجد عشرات التعاريف للشيء الواحد، وفي أغلب الأحيان تكون ناقصة أو متناقضة . فنرى عشرات التعاريف للديمقراطية، وماتزال الديمقراطية عصية على الفهم، وأصبح مفهوم المجتمع المدني “موضة” رائجة يحشرها الكتاب في كل أطروحة تدعي الحداثة، وما زلنا نخلط ما بين العشيرة، والحزب، ونذكر الدولة وكأنها من البديهيات، فيما لا ننتبه أننا كلما تحدثنا عنها سقنا لها تشبيه الأسرة.
الأمر الأكثر خطورة، أننا ولجهلنا بإدراك المفاهيم الحديثة، نقوم بإسقاطها على ما نعرفه أو ما هو أقرب الى تاريخنا، حتى لوكان مختلفاً اختلافاً جذرياً عن المفهوم، ففي الكثير من الكتب والأطروحات السياسية ترد كلمة الدولة الإسلامية، سواء في عصر الرسول، أو الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين منهم، او الأمويين، أو العباسيين. إن هذا لا يختلف عن أن نطلق على الهودج اسم السيارة.
دم شهداء الحرية لا يمكن استرجاعه بلا شك، لكنه يمكن أن يتحول إلى شعلة نور تضيء لنا الطريق، لنعيد بناء سورية دولة حرة، وشعبا كريماً، حينها فقط ترتاح أرواح الشهداء، ويسكن جرح المعذبين. وهذا لن يحدث قبل استعمال الوصفة السحرية، وهي أن ندرك معنى الدولة والحرية والشعب.
ــــــ